فصل: سورة المعارج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (38- 52):

{فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ}.
القسم هنا منفى بلا النافية في قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ} وليست {لا} زائدة كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين.. فنحن على رأى واحد في أن لا زيادة في حرف أو كلمة في نظم القرآن! وهذا القسم المنفي. إما أن يكون نفيه لأن المقسم عليه، وهو القرآن الكريم، وبأنه قول رسول كريم- حقيقة ثابتة، ظاهرة، لا تحتاج إلى قسم.
وإما أن يكون المقسم لهم- وهم هؤلاء- المشركون، لا يصدّفون بهذا الحديث، سواء حلف لهم عليه أم لم يحلف.. وإذن فالأولى أن يكون الحديث إليهم مرسلا من غير قسم، لأن من لا يصدق المتحدّث إليه، بغير قسم، لا يصدقه إذا هو أقسم، بل إن القسم ربما زاد من شكوكه في صدق من يحدّثه.
والذي نبصره، هو ما يقع تحت حواسنا ومدركاننا من هذا الوجود والذي لا نبصره، هو ما لا يقع تحت الحسّ والإدراك، وهو هذا الوجود العظيم، الذي مبلغ علمنا به لا يتجاوز قطرة من محيطات.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}.
هو المقسم عليه.. وهو القرآن الكريم، وأنه قول رسول كريم.
والرسول الكريم، هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذي يحدّث القوم بآيات اللّه التي يتلوها عليهم.
ونسبة قول القرآن الكريم إلى الرسول، لأنه هو الذي يتحدث به، ويبلغه إلى الناس، على أنه كلام اللّه، ومن عند اللّه.
فمعنى القول هنا البلاغ.
أي هذا القرآن هو بلاغ من رسول كريم، لا أنه من كلامه هو، ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} ليقرر هذه الحقيقة، كما جاء بعد هذا قوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} ليؤكد هذه الحقيقة، ويقطع كل شبهة بأن لرسول اللّه شيئا من هذا القرآن الذي يتلوه على الناس، وإنما هو من كلام ربّ العالمين.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} جبريل عليه السلام، أمين الوحى.
وهذا- واللّه أعلم- مما يحتمله النظم القرآنى، وإن كان الأولى عندنا أن يكون المراد بالرسول الكريم، هو رسول اللّه، إذ كان الموقف هنا موقف دفاع عن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وردّا على اتهام المشركين له بأنه كاهن، وبأنه شاعر.. فكان المقام يقضى بأن يوضع الرسول بموضعه الصحيح، وهو أنه رسول كريم، وأن ما ينطق به ليس من منطق الكهانة ولا الشعر، وإنما هو منطق مبعوث كريم من ربّ العالمين، يبلّغ ما أرسل به إلى عباد اللّه.
وفى وصف الرسول بأنه {كريم} إشارة إلى أنه يقدّم هذا الخير العظيم للناس، في سخاء، ويبذله، في غير منّ، لا يطلب عليه أجرا.
قوله تعالى: {وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ}.
هو نفى لتهمة الشعر التي يلصقها المشركون بالقرآن.. فالرسول ليس بشاعر، وما ينطق به ليس من باب الشعر، ولا من واردات الشعراء أبدا.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} [69: يس] وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ}.
أي أنه مع وضوح هذه الحقيقة وضوحا لا يحتاج إلى طول بحث، ومعاناة نظر، فإنكم أيها المشركون تتمارون في هذه الحقيقة، وترفضون الإيمان بها، وإن وقع لكم شيء من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من أودية الشعر، فإنه سرعان ما يغلبكم الهوى، ويطغى عليكم الضلال، فتركبون الحماقة، وتردّدون هذا القول الذي يكذبكم به الواقع المحسوس، إذ كان إيمانكم إيمانا قليلا.. في كيفه وكمّه.
قوله تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ}.
أي وليس هذا القرآن من قول كاهن، لأن لغة الكهانة لغة غامضة، معمّاة بالألغاز.. وهذا كلام عربىّ مبين.
وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} استبعاد لهم من أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يعرضوا عليها هذا الذي يسمعونه من آيات اللّه، وهذا الذي يحفظونه من مقولات الكهان ليروا بعد ما بينهما، وأنه إن كان لهم من هذا ذكر، فهو أشبه بأطياف الأحلام، لا يلبث أن يقع فريسة للجهل والغفلة.
قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
هو قولة الحقّ في القرآن الكريم، وأنه منزل من رب العالمين، ليس من كلام بشر، أيّا كان، شاعرا، أو كاهنا، أو حكيما، أو عالما.
قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ}.
هو استبعاد لأن يكون من رسول اللّه في هذا القرآن كلمة من عنده، أضافها إليه، ثم أسندها إلى اللّه.. فإنه لو فعل ذلك- ومحال أن يفعله- لكان عقابه أشد العقاب من اللّه.. {لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي لأمسكنا به من يمينه.
{ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} أي لذبحناه، وقطعنا وريده، الذي هو ينبوع الحياة.
ثم لم يكن لأحد منكم أن يمنع عنه هذا العقاب الذي تأخذه به، ويحجز بينه وبين الجزاء الذي نوقعه عليه. {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ}.
وإذن، فلم يكذب محمد؟ ولم يقول على اللّه ما لم يقله اللّه؟
ألأجل نفسه يفعل هذا؟ إنه لم يطلب أجرا، ولم ينل منكم كثيرا أو قليلا.. بل كل ما كان له منكم هو هذا الأذى المتصل، وتلك السفاهة الحمقاء.. أم لأجلكم أنتم كان هذا الافتراء؟ ولم يعرّض نفسه لا نتقامنا، وأنتم لن تدفعوا عنه ما نأخذه به من عقاب؟
إن الذي يغامر هذه المغامرة، إما إن تكون لحساب نفسه، ومن أجل هذا يحتمل ما يحتمل في سبيلها.. وإما أن يكون لحساب غيره الذي يجد منه الحماية ساعة الخطر.
فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فإنه يصبح من المحال أن تقع منه تلك المغامرة بالافتراء على اللّه، لغير سبب معقول، أو حكمة ظاهرة.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.
هذا هو القرآن الكريم.. إنه ليس بقول شاعر، ولا بقول كاهن، ولا متقوّل من رسول اللّه على اللّه، وإنما هو تنزيل من رب العالمين.. وهو تذكرة للمتقين، يذكرهم بما في فطرتهم السليمة، من إيمان باللّه، وتقبّل للحق والخير.. فهل بقي لكم من فطرتكم- أيها المشركون- شيء تلتقى به مع الحق، وتؤمن به؟
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات اللّه، وأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم المكذبين بهذا الحديث، والمتهمين للرسول، وإن وراء هذا العلم حسابا، وجزاء، وعذابا أليما.. وفى خطاب المشركين بأن منهم مكذبين.
إشارة إلى أن كثيرا منهم كان يعلم صدق النبي، ولكن الكبر والعناد يحولان بينهم وبين الخضوع للحق، والولاء له، كما يقول سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [33: الأنعام].
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ}.
وأي وإن هذا القرآن لحسرة على الكافرين، يوم ينكشف لهم أنهم بتكذيبهم له، وكفرهم به، قد وردوا النار، وألقوا في العذاب المهين.
فتمتلئ لذلك قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يأخذوا طريق النجاة على هداه.. لقد كان مركب نجاة أقلعت، ولن يلحقوا بها.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}.
أي هذا القرآن هو حق من حق.. وأنه الحق المستيقن، الذي لا يأت يه باطل من بين يديه ولا من خلفه.. وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أنه من موارد اليقين، وأنه حق هذا اليقين، وخلاصة ما فيه.. فهو حقّ مصفّى من حق، إن كان الحق في حاجة إلى تصفية!! قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
هو دعوة للرسول الكريم أن يلقى هذه المنّة العظيمة بنزول القرآن عليه، بتسبيح ربه العظيم، وبحمده، وتنزيهه، والولاء له.. فهذا هو بعض ما ينبغى في مواجهة نعم اللّه، وفى مقام الشكر عليها.
وإذا كان القرآن الكريم هو مأدبة اللّه التي يصعم منها المؤمنون، وينالون منها الشّبع لقلوبهم، والرىّ لأرواحهم- فإن التسبيح باسم اللّه العظيم مطلوب منهم، بعد هذا الشبع، وذلك الري، للقلوب والأرواح.. فلينتظموا صفوفا وراء إمامهم الكريم، رسول اللّه، وليسبحوا معه باسم ربهم العظيم.
والتسبيح باسم اللّه، هو تسبيح لذات اللّه سبحانه وتعالى، في اسمه الكريم، أما ذاته سبحانه فلا يعرف لها كنه، ولا يقع لها في العقل تصور، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

.سورة المعارج:

نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الحاقة.
عدد آياتها: أربع وأربعون آية.
عدد كلماتها: مائتان وثلاث عشرة كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وسبعة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كان مما تحدثت عنه آيات سورة الحاقة ما يلقى الكافرين من عذاب ونكال يوم القيامة.. وأنهم يسحبون في سلاسل إلى النار، ويسجرون فيها، ثم يطعمون غسلينها وزقومها.
وهذا الحديث عن النار، وما يلقى فيها المكذبون بآيات اللّه وبرسل اللّه، من عذاب وهوان- هذا الحديث لا يلقى من المشركين إلا الهزء والسخرية، والتحدّى، لأنهم لا يؤمنون بالبعث.. ومن ثم فلا يصدقون بما وراء البعث من من حساب وجزاء.. وإنه لتبلغ بهم الجرأة في التكذيب أن يقول قائلهم:
{اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال].
ولهذا جاءت سورة المعارج مفتتحة بهذا الوعيد، لتواجه به المكذبين بيوم القيامة، ولتلقاهم بالعذاب الذي أنذروا به، والذي يستعجلونه، هزؤا به، وسخرية منه.
وبهذا نجد التلاحم بين السورتين، أكثر من أن يكون تلاحم جوار، وإنما هو تلاحم نسب وقرابة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 18):

{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ}.
لم تذكر الآية الكريمة اسم هذا السائل، بل جاءت به منكّرا هكذا:
{سائل} لأنه لا يعدو أن يكون واحدا من هؤلاء السفهاء، الرقعاء، الذين ركبهم الجهل، والغرور، حتى لقد خيل إليهم أنهم أوتاد هذه الأرض، وأنهم لو أخلوا مكانهم منها لفسد نظام الكون، واضطرب أمر الناس!! والسؤال من السائل هنا، هو سؤاله عن هذا العذاب: متى هو؟ وهو المنكر لما يسأل عنه، وكأنه بهذا الإنكار، إنما يهتف به أن يأتيه الآن، وأن يقع به في الحال.. إنه على استعداد لا ستقبال هذا العذاب، لأنه على يقين من أنه شيء لا وجود له!.
وفى تعدية الفعل {سأل} بحرف الباء، مع أنه يتعدى بالحرف عن إشارة إلى تضمن الفعل معنى المطالبة بهذا العذاب، والهتاف به، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان هؤلاء المشركين: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال] فكأن المعنى: طلب طالب، ودعا داع بالعذاب الواقع.
وقوله تعالى: {لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ} هو ردّ على هذا السؤال المتحدّى، المنكر.
أي أن هذا العذاب هو معدّ للكافرين، مقبل إليهم، لا يدفعه عنهم دافع.
وقوله تعالى {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ} متعلق بمحذوف، تقديره مرسل عليهم من اللّه ذى المعارج.
والمعارج الأماكن المرتفعة، التي يكون الصعود إليها دائريّا، كالصعود إلى المئذنة ونحوها، ومنه قوله تعالى: {وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ} [33: الزخرف].
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن العروج إلى السماء، لا يكون في خط عمودى، وإنما في خطوط مقوسة، داخل قبة الفلك، التي تمثل دائرة عظيمة لا نهاية لها.
وفى جمع {المعارج} إشارة أخرى إلى أن هناك أكثر من معرج، وأن لكل سماء معرجها الذي يعرج إليها منه، أشبه بالمبني ذى الطوابق العديدة، لكل طابق معرج يعرج فيه إليه.
ووصف اللّه سبحانه وتعالى بأنه ذو المعارج، إشارة ثالثة إلى علو سلطانه، وأن العذاب المرسل منه إلى الكافرين، عذاب يسقط عليهم من سموات عالية، فلا يمكن لقوة أن تحول بينه وبين أن يهوى على رءوس الكافرين.. إنه أشبه بالأحجار التي تهوى من السماء على رءوس من هم في دائرة سقوطها.
قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.
هو إشارة إلى مدى هذا العلو الذي لتلك المعارج، التي يقوم عليها سلطان اللّه، وأن الملائكة والروح، تصعد هذه المعارج في يوم.. ولكن أي يوم هو؟
إنه يعدل خمسين ألف سنة من أزمان الدنيا.. أي أن ما يقطعه الملك في عروجه إلى السماء في يوم واحد، يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة بأقوى ما يمكن أن يتوسل به من وسائل، من صواريخ، ومركبات كوكبية وغيرها.
والمراد بالروح، إما أن يكون جبريل عليه السلام، أو أرواح البشر، أو مخلوقات من عالم الروح غير الملائكة. والمراد بهذا أنها مخلوقات ذات سرعة مطلقة من غير قيد المادة ومعوقاتها.. إنها أرواح، لا أجساد لها.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا}.
هو تطمين للنبىّ، وتسرية عنه، لما يلقى من عناد قومه، واستهزائهم به، تحديهم للعذاب الذي ينذرهم به.. إن عليه أن يوطن نفسه على الصبر، والصبر؟؟؟، الذي لا يصحبه ضجر أو ملل.
ثم إن هذا الخطاب للنبى الكريم، فيه تهديد للمشركين المكذبين، بما سيقع بهم وراء هذا الصبر الذي يلقاهم النبيّ به، محتملا سفاهتهم، وسخريتهم.
فهو كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [17: الطارق] قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً} الضمير في {يرونه} يعود إلى العذاب الواقع بالكافرين، المرسل عليهم من اللّه ذى المعارج.
فالمشركون المكذبون باليوم الآخر، يرون العذاب بعيدا، أي بعيد الوقوع، بعدا يبلغ حد الاستحالة، أو يرونه بعيدا، لأنه إذا جاء فإنما يجيء يوم القيامة، التي لا يدرى أحد متى تكون على فرض وقوعها.. فهذا الزمن المجهول، يبدو بعيدا بحيث يكون من العبث أن يرجو منه المرء خيرا، أو يخشى منه شرا.. هكذا يقوم حساب هذا اليوم عند اللّاهين والغافلين، الذين لا يعيشون إلا ليومهم.. {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (12: محمد) وقوله تعالى: {وَنَراهُ قَرِيباً} أي أنه وإن بدا هذا اليوم بعيدا في نظر المشركين والمكذبين- هو في حقيقته قريب، وأنه إذا طلع عليهم بعد آلاف السنين، بدا لهم أنه ابن يومهم هذا الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [46: النازعات].
قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ}.
هو بيان للأحداث التي تقع يوم القيامة، يوم العذاب الذي ينتظر أهل الشرك الضلال.
ففى هذا اليوم، تكون السماء {كالمهل} وهو خثارة الزيت، بعد غليانه، وتكون الجبال {كالعهن} وهو الصوف المصبوغ بلون الحمرة، بعد أن ينفش وتنحلّ أجزاء بعضه عن بعض.
وفى تشبيه السماء بالمهل، والجبال بالعهن، وما يغلب على التشبيهين من لون الحمرة- في هذا إشارة إلى تغير طبيعة لون الجوّ، في مرأى العين، وذلك حين يكون موقع النظر من خارج الغلاف الجوى للأرض، حيث تبدو السماء، والأرض، مكسوّنين بلون أشبه بلون الأفق الداكن بعد الغروب، أو قبل الشروق.
هذا، وقد عرضنا للحديث في أكثر من موضع عن هذه التغيرات التي تحدث يوم القيامة، في العالم الأرضى، وما يتصل به من عوالم السماء، وقلنا إن هذه التغيرات إنما هي واقعة بالنسبة لإحساس الإنسان يومئذ بها، نتيجة لتغيّر موقفه من الأرض، وتغير طبيعته بعد البعث.. أما عوالم الوجود في الأرض وفى السماء، فإنها تجرى على ما أقامها اللّه سبحانه وتعالى عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [48: إبراهيم].
فهذا التبدّل هو تبدّل في مدارك الإنسان لهذه العوالم، لتبدّل موقفه منها، ورفع الغطاء الكثيف الذي كان على بصره وبصيرته في الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً}.
أي في هذا اليوم، لا يسأل صديق عن صديق، ولا يلتفت قريب إلى قريب، لما يواجه الناس يومئذ من أهوال، وما يحيط بهم من كروب.
قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ}.
هو بيان للحال التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن كلّ إنسان مشغول بنفسه، لا يسأل عن أحد، ولا يسأل عنه أحد.. إن كان من الناجين مضى إلى مرفأ النجاة، ناجيا بنفسه، دون أن يلتفت إلى وراء، أو عن يمين أو شمال.. وحسبه أنه نجا.. وإن كان من الهالكين فحسبه ما يعانى من شدّة وبلاء.. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (37: عبس) وقوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ}.
أي يرونهم رؤبة كاشفة لأحوالهم وما هم فيه من كرب وبلاء.. وضمير الرفع الواو وضمير النصب الهاء في {يبصرونهم}، يعودان إلى {حميم} و{حميما}، لأن كلّا منهما في معنى الجمع، وإن كان مفردا، لأنه نكرة تفيد الاستغراق في حال النفي.
والتقدير أنه لا يسأل الأصدقاء أصدقاءهم، لأن كلّا من طرفى التساؤل، على حال واحدة، من الوجوم، والاشتغال بالنفس عن الغير، فالجميع في هذا اليوم على سواء فيما يذهلهم من هموم، فلا سائل، ولا مسئول. وفى الفعل {يبصرونهم} ما ليس في الفعل {يبصرونهم} وذلك:
أولا: أن يبصّرونهم يفيد أن أهل الموقف- لما هم فيه من بلاء- لا يكادون يبصرون شيئا.. ولكن كأن قوة خارجة عنهم تحملهم حملا على أن يفتحوا أعينهم على هذا المكروه الذي يحيط بهم، ويهجم عليهم.
وثانيا: أن يبصّرونهم، تجعل المبصرين والمبصرين على سواء، فكل منهم يبصر، ويبصر، في حال من الفزع والهلع، لا تدع لأىّ سبيلا إلى الاختيار فيما ينظر إليه.
وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}.
هو حال من ضميرى الرفع والنصب في يبصرونهم.. أي أنه يبصر بعضهم بعضا، ويكشف بعضهم حال بعض، في حال يود فيها المجرم لو يفتدى من عذاب هذا اليوم ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا.
من الإعجاز النفسىّ.. في القرآن:
ولابد من وقفة هنا بين يدى قوله تعالى: يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي {تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ}.
حيث نجد صورة من صور الفرار من الخطر، يتخفف فيها الإنسان مما بين يديه من كل عزيز عليه، غال عنده، ولكنه محمول على هذا تحت وطأة البلاء المحيط به.. ولهذا فهو لا يلقى بكل مدخراته جملة واحدة، وإنما يخلى يده من بعض، ويشدّ يده على بعض، حتى إذا لم يجد فيما فعل ما يخفف عنه البلاء، ألقى بكل مامعه جميعا، لعله يجد في هذا طريقا للإفلات من يد هذا الخطر المطلّ عليه.
والفرار من الخطر، وطلب النجاة من مواطن الهلاك، غريزة مركوزة في الكائن الحىّ، يقوم عليها بقاؤه وحفظ نوعه.. وإنه حين يفقد الكائن الحىّ فعالية هذه الغريزة، يفقد الحياة في أولى خطواته على طريقها.. سواء في ذلك الإنسان، أو الحيوان، وحتى النبات.. وأكاد أقول والجماد أيضا!!.
والإنسان بما فيه من عقل وذكاء، قد مكّن لهذه الغريزة في كيانه، وأقام منها حارسا يقظا عليه، ووضع بين يدى هذا الحارس أكثر من سلاح يدفع به أي خطر يقع، أو يتوقع أن يقع.
وفى الآخرة أهوال تأخذ الناس بالنواصي والأقدام.. {إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد} [1- 2: الحج].
فى هذا الموقف الرهيب، يساق المجرمون، والعصاة، إلى ساحة القصاص، حيث يرون رأى العين مصيرهم الذي هم صائرون إليه، والمنزل الذي سينزلونه من جهنم، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا.
إن القلوب لتنخلع من هذا الهول، إن كان هناك قلوب لم تذهب بها مطالع الأهوال، ولم تفتتها الآلام والحسرات.. إنها حال لا يمكن أن تتصورها العقول، ولا أن يحيط بها وصف، لأنها مما لن يقع إلا في هذا اليوم.
هناك صراخ وعويل، وزفرات وأنين، ولهفات وحسرات، يختلط بعضها ببعض، فتملأ أسماع العالمين بهذه المناحة المروّعة، التي تزيد في الآلام، وتضاعف من العذاب!.
وأين المفر؟
إنه لا مفر من النار إلا إلى النار، ولا مفزع من البلاء إلا إلى البلاء!.
ومع هذا اليأس القاتل، فإن قسوة العذاب، وشدة البلاء، تحمل المجرمين على أن يفزعوا إلى أي مفزع، ويتجهوا إلى أي متجه.. إنها محاولات لابد منها، وحركات تجرى في النفس، ولا تتخذ لها طريقا عمليا، حيث اليأس المطلق، الذي لا يلوح في سمائه المتجهمة بصيص من أمل، ولا أثر لرجاء.
وننظر في هذه الصورة المعجزة، التي صورها القرآن الكريم لمسارب النفوس ومجرى الخواطر، في زحمة هذا المعترك الضنك الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر.
إنه لو قدر لآلات التصوير السينمائى أن تدخل إلى عالم النفس، فترصد حركاتها، وتكشف عن خفاياها، لما أمكنها أن تأتى بما يقرب من هذه الصورة القرآنية في إحكامها، وصدقها، وإحاطتها الشاملة بما تكنّ الضمائر، وما تخفى الصدور.
وننظر في الصورة القرآنية، التي عرضتها الآيات الكريمة.
(يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ يبنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه.. كلا.. إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى).
إن الإنسان هنا في فم الهلاك، وفى دائرة العذاب المطبق عليه.. وإن لذعة العذاب لتخرج الإنسان عن نفسه، وتجعل أعضاءه- في متدافع هذا العذاب- يرمى بعضها بعضا، ويتّقى بعضها ببعض.. إنه لا شيء يحرص عليه الإنسان هنا.. إن أقرب شيء إليه، وأعزّه إلى نفسه، ليقدّمه في غير وعى، ليدفع به هذا العذاب الذي يأكله، كما تأكل النار الحطب! إنه لا يملك غير نفسه، وقد احتواها العذاب! فهل يحرص بعد هذا على شيء؟.
إنه يود أن لو كان بين يديه أبناؤه.. إذن لا تقى بهم هذا العذاب، ولجعلهم دريئة له، يتلقون عنه ألسنة اللهب، ووهج السعير.
ولكنه إذ يرمى بأبنائه في جهنم ثم لا يجد فيهم غناء، يمد يده إلى من هم أبعد إليه منهم.. إنها صاحبته، أي زوجه، وأم بنيه، ثم هي زوج وصاحبة معا، قد سكن إليها، وتعلق قلبه بها، وليست مجرد زوجة!.
ثم ماذا؟ إنها لم تغن عنه شيئا.. وها هو ذا يمدّ يده إلى من هم أبعد من بنيه، وصاحبته.. إلى أخيه.. ثم إلى أهله وعشيرته.. ثم إلى كل من تطوله يده من قريب أو بعيد.. ثم لا يزال هكذا حتى يأتى على كل ما في الأرض، من أنفس، ومتاع.
إن هذا الترتيب المتتابع في تقديم ضحايا الفداء، لا يمكن أن يقع على هذا الوجه إلا بحساب دقيق محكم لاتجاهات النفس، وإلا بتقدير واقعي لارتباطها الشعورى بكل ضحية يضحّى بها في هذا المقام.
وقد يبدو غريبا- في ظاهر الأمر- أن يقدّم الإنسان أول ما يقدم للفداء والتضحية، أعزّ شيء لديه، وهم أبناؤه، وقد كان المتوقع أن يضنّ بهم، أو أن يجعلهم آخر سهم يرمى به في وجه هذا الهلاك الذي يحتويه!! وهذا الحساب إنما يجرى على هذا الوجه، حين تكون الأمور على ما ألف الناس، وحين يكون في الأمر شيء من السّعة، ولو كان بمقدار سمّ الخياط.
أما والعذاب هو عذاب جهنم، فإن المعابير تختلّ والموازين تضطرب.
وهل ينتظر من الإنسان في مزدحم هذا الهول أن يعرف ضوابط ومعايير؟
وهل يدع هذا العذاب لإنسان سبيلا الاختيار، أو فرصة للموازنة؟.
إن أقرب شيء للإنسان في هذا الموقف، هو درعه التي يتقى بها لفح العذاب، ولو كان هذا الشيء عضوا من أعضائه!! ولكن انظر حين يكون في الأمر شيء من السعة، وحين يكون الإنسان خارج دائرة العذاب، لم يقع فيه بعد، ولم تغلق عليه أبواب جهنم.
إنه هنا يملك شيئا من الاختيار.. ولهذا فإنه في ابتداء منطلقه من وجه الخطر، يتخفف من المهم فالأهم، ويتخلى عن العزيز فالأعزّ.. إنه لا يقدم فدية، ولكنه يحلّ نفسه من الروابط التي تربطه بالولد، والصاحبة، والأب والأم، والأخ. تلك الروابط التي تجعل منه ومن هؤلاء الأقربين كيانا واحدا، أشبه بالجسد وأعضائه.
فهو إذ يحلّ عقد الروابط بينه وبين هذه الأعضاء، يبدأ بأبعدها عنه، فيحلها عقدة عقدة، حتى ينتهى إلى أقرب عضو إليه، ولا عضو أقرب منه بعد هذا إلا نفسه ذاتها.
وشاهد هذا في القرآن الكريم.. في قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [34- 35: عبس].
فهنا حركة فرار من خطر داهم.. أو شر مقبل، أو حيّة مهاجمة، أو نار علقت بالدار والمتاع، أو نحو هذا.. وهنا لا يلتفت الإنسان إلا إلى نفسه، لينجوبها إن هذه الدقة البالغة غاية الأحكام، في تصوير الحقائق، وانتزاعها من أغوار النفس، ومسارب الفكر، لا تكون في غير القرآن الكريم، ولا تجيء إلا من تلقائه، حيث القدرة المعجزة، والبيان المفحم.
ولو ذهب كانب أو شاعر، يصور هذه الأحوال، لما أمكن أن يقارب هذا التصوير القرآنى، ولا أن يقع في ظلاله.
وهب شاعرا أو كانبا وقع في نفسه هذا الترتيب، أفتظن أنه كان يستطيع أن يجد له هذا البيان الواضح السمح، الذي يتدفق تدفق النور من وجه الصباح الوليد؟ ثم أكان يفرّق في هذا المقام بين زوجة وزوجة بهذه اللفظة المعجزة:
{صاحبته} التي تضمن لهذا الترتيب بين أهل الإنسان وعشيرته، الصدق والواقعية؟
ثم ماذا؟
ثم هذا العطف بالواو في الآيتين:
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ}.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} (34- 36: عبس).
هذا العطف بالواو.. ماذا تقول فيه؟
إن علماء البلاغة يقولون: إن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وأنها لمطلق الجمع.. وربما كان هذا حقّا.. وهو حق فعلا، ولكنه في مجال الكلام الذي يكال كيل التمر، ولا يوزن وزن الدّر، والذهب. أما حين يرتفع مستوى الكلام إلى أعلى منازل البلاغة، ثم يجاوزها فيكون من كلام اللّه سبحانه في كتابه الكريم، فإن الأمر يختلف، حيث يكون لكل حركة معنى، ولكل وضع من النظم مقصدا، لا يتحقق إلّا به.
فالواو في القرآن الكريم، صالحة في أغلب الأحيان، لأن تفيد الترتيب والتعقيب، فتجعل للمتقدم وضعا غير وضع المتأخر، ومع اشتراكهما في الحكم، فإنهما على درجات في هذا الحكم، وتلك خاصة من خصائص البيان القرآنى، وسر من أسراره، لا يشاركه فيه غيره من شعر أو نثر.
وهكذا فرّق أصحاب البصر بكتاب اللّه بين المتعاطفين بالواو، وجعلا لكل منهما مكانا خاصا من المشاركة في الحكم الذي اشتركا فيه.
فأبو بكر رضى اللّه عنه، يقيم حجته على الأنصار، بتقديم المهاجرين عليهم من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ} فيقول لهم: أسلنا قبلكم، وقدّمنا في القرآن عليكم.
وقد سلّم الأنصار له بهذه الحجة ولم ينازعوه فيها.
وإذن، فهذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات الكريمة في الموضعين السابقين هو ترتيب لازم، وإن كانت الواو هي أداة العطف في هذا الترتيب! ثم لعلّ سائلا يسأل: إذا كان هذا الترتيب لازما، فلما ذا لم يجيء العطف بالفاء ليكون ذلك أدلّ على المراد، وأبلغ في بيان المطلوب؟

وأكاد أوثر ألّا أجيب على هذا التساؤل، وأدع السرّ الإعجازي للعطف بالواو محجّبا في جلاله لا يغشى حماه إلا من يسعى إليه، ويقف على مشارف حماه، يخالس النظر إليه، ويرشف من رحيقه قطرة قطرة.. ولأنى على يقين من أن أي جواب أجيب به عن هذا التساؤل، لا يمكن أن يقطع النظر عن البحث وراء أسرار هذا العطف تلك الأسرار التي لا تنفد أبدا، على كثرة ما يقع منها لأنظار الناظرين فيها.
ولهذا، فإنى لا أرى داعية إلى الإمساك عن الإجابة على هذا التساؤل، بما وقع لى.. ثم إن لغيرى أن يقبل هذه الإجابة، أو يعدّلها، أو يبحث عن جديد غيرها.. وإنه لواجد جديدا، وجديدا.
فأقول:
لعل أول ما يبدو من إيثار النظم القرآنى العطف بالواو، هو أن هذا العطف بالواو في هذا المقام، يتسع لتحقيق المعنى الذي تتحق به الموافقة للواقع.
ذلك أن هذا الترتيب في التخلّي عن الأعزاء، أو سوقهم إلى ساحة التضحية والفداء، لا يقع بهذا التحديد على تلك الصورة المعروفة، التي تقع في الحياة، حين يكون للمرء فرصة للاختيار، فيقدم ويؤخر، فيما يتخلى عنه، أو يقذف به في وجه العذاب، واحدا، بعد واحد.. وكلّا، فإن شدّة الهول، ووقدة السعير، لا يكون المرء معها فرصة للتفكير والاختيار، وإنما هو يتخلى عنها جميعا مرة واحدة، ويقذف بها كلها دفعة واحدة!! ولكنها- مع هذا الحشد لها- تأخذا هذا الوضع في الترتيب الذي جاء بها عليه النظم القرآنى.
والعطف بالواو، وبالواو وحدها، هو الذي يحقق هذه الصورة المجتمعة المتفرقة في آن واحد.. وذلك لأن الواو لمطلق الجمع من جهة، وللترتيب بين المتعاطفين من جهة أخرى، ثم إنه ليس بين متعاطفيها إمهال ملتزم، كما يكون ذلك بين المتعاطفين بالفاء، أو ثم.
تقول الآيات الكريمة في هذه السورة: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ} فتضع هؤلاء الضحايا جميعا على مذبح الفداء مرة واحدة، ثم هى- مع هذا- تضعهم بهذا الترتيب، فيما يشبه الزّمن العدمي!! وتقول الآيات الكريمة في سورة أخرى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} (عبس: 34- 36) فتفرض على المجرم الفارّ من وجه العذاب- أن يرمى بكل هؤلاء جميعا دفعة واحدة كما يرمى بحصيات من يده، مرة واحدة ولكن- وبتدبير معجز- تخرج تلك الحصيات من يده على هذا الترتيب الذي جاءت به الآيات.. فهو يفر من أهله جملة واحدة، لا يفصل بين أفرادها زمن، ولكنها جملة مفصلة، تمر في أسرع من آنات الزمن! ولو أن العطف وقع بالفاء، أو ثم في الموقفين، لكان في هذا الترتيب فواصل زمنية لازمة، لا يحتملها الموقف، ولا يحكيها واقع الحال! هذه واحدة.
وأخرى.
وهى أن الطبيعة البشرية في مجموعها، وإن كانت تجرى على هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات في الموقفين، في مقام المفاضلة بين الأهل والولد.. الابن، فالصاحبة (الزوج)، فالأب، فالأم، فالإخوة، فالأهل والعشير.! ولكن هناك حالات خاصة تقضى بأن يكون لبعض الناس موقف خاص من هذا الترتيب، فيقدّم صنفا على صنف، لانحراف في التفكير، أو لفساد في الطبيعة، أو فتور في العلاقة، أو غير هذا مما يغيّر في وضع العلاقة الطبيعية بين المرء وأقاربه.
وإنه لو جاء العطف بالفاء أو ثم، لكان هذا الترتيب حكما ملزما للناس جميعا أن يجروا عليه في هذه المواقف، ولكان هذا الحكم غير صادق كل الصدق، ولوجد من الناس من ينقضه، ويخرج عليه.. أما العطف بالواو فإنه يتسع لقبول مثل هذه الحالات العارضة على الطبيعة البشرية، حيث أن العطف بها لا يفيد هذا الترتيب الملزم.. فهى- أي الواو- تفيد الترتيب المطلق من جهة، وبذلك تحقق الحكم العام الذي يجرى عليه معظم الناس، ثم هي من جهة أخرى، لا تجعل هذا الترتيب أمرا ملزما- لأن الترتيب ليس من طبيعتها، ولكنه شيء عارض في مقام الإعجاز- وبذلك تتناول الأطراف المنحرفة من مجموع الإنسانية، وتجعل لها مدخلا في الحكم، ومكانا في الصورة.
ثم ماذا بعد هذا؟ ثم كثير وكثير لا ينتهى أبدا.. {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى}.
{كلا} ردع، وزجر، ونفى.. فإنه لا نجاة من هذا العذاب، ولا مفر من أن يقع بأهله، فلا يدفعه دافع من جاء أو سلطان، أو فدية من مال وبنين {إِنَّها لَظى} تعليل لنفى النجاة عن أصحاب النار، وردّ أي فدية لو كان يملك أحد شيئا يقدّمه في هذا اليوم.. إنها لظى! فهل يملك أحد أن يفرّ منها؟
وفى قوله تعالى: {إِنَّها لَظى} تلويح بهذه النار الجهنمية في وجه المجرمين.
{إِنَّها لَظى} وكفى..! فهل يستطيع أحد أن يفلت من {لظى} إذا أوقعه شؤمه، وضلاله في طريقها؟ ذلك محال.
وهذا مثل قوله صلى اللّه عليه وسلم لعلى كرم اللّه وجهه، وقد عرض نفسه لينازل عمرو بن ودّ يوم الخندق، وقد تهيبه المسلمون يومئذ.. فقال صلوات اللّه وسلامه عليه- لعلىّ كرم اللّه وجهه-: «إنه عمرو!!» فقال علىّ: وأنا على!!.
وسميت {لظى} لتلظّى لهيبها، وتأججه، وزفيره وشهيقه.
{نَزَّاعَةً لِلشَّوى} حال من أحوال {لظى}.
وصاحب الحال {لظى}، وهى معرفة، لأنها واحدة في بابها، وعلم مفرد في صفاتها وأفعالها.
والشوى: الأصراف، كاليدين، والرجلين.
وفى قوله تعالى: {نَزَّاعَةً لِلشَّوى} إشارة إلى أن أول ما تحدثه النار في الكائن الحىّ الذي يشوى بها، هو انخلاع أطرافه.. وهذا يعنى أن يفقد المعذّب بالنار القدرة على الحركة، إذا انفصلت عنه رجلاه اللتان يتحرك بهما، كما يفقد القدرة على الدفاع عن نفسه بيديه بعد أن عجز عن الفرار، إذ قد انخلعت عن جسده هاتان اليدان.. وهكذا يصبح كتلة مستسلمة للعذاب، مقيدة بقيد العجز المطلق.
وقوله تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}.
حال أخرى من أحوال لظى، وأنها تدعو إليها من أعرض عن الإيمان باللّه، وأعطى ظهره لدعوة الحق.. فكأنها يدعوتها تلك إنما تستقبل من أقبل عليها، وولى وجهه نحوها، حين أعرض عن الإيمان باللّه، وكما تستقبل من أعرض عن الإيمان- تستقبل من جمع المال وأوعاه أي وضعه في وعاء، وضمن به عن الإنفاق في وجوه الخير، والإحسان.
وفى الجمع بين الإعراض عن الإيمان باللّه، والإمساك عن الإنفاق في سبيل اللّه- إشارة إلى شناعة البخل، وأنه يعدل الكفر، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} [33- 34:
الحاقة].